إسرائيل وإيران- تصعيد خطير وتوازن القوى في الشرق الأوسط.

في تطور بالغ الخطورة، دشنت إسرائيل فصلًا جديدًا من صراعها المحتدم مع إيران، وذلك من خلال إطلاق عملية عسكرية تهدف إلى بلوغ ثلاثة أهداف إستراتيجية رئيسية، وفقًا لما صرح به رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. تتمثل هذه الأهداف في إعاقة برنامج إيران النووي بشكل قاطع، وتدمير البنية التحتية العسكرية الإيرانية بشكل ممنهج، والقضاء على قادة عسكريين وعلماء نوويين إيرانيين مرموقين.
تجدر الإشارة إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي تشهد مواجهات عسكرية مباشرة بين إسرائيل وإيران. فقد تبادل الطرفان الضربات والهجمات المباشرة في مناسبات عديدة خلال العام المنصرم، وذلك على خلفية حرب السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
إلا أن هذه الجولة الحالية من التصعيد تتسم بثلاثة جوانب جوهرية تجعلها نقطة تحول مصيرية في إعادة صياغة موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط:
- أولًا: تتميز الأهداف الإسرائيلية المُعلنة للعملية العسكرية ضد إيران في هذه المرة بطموح جم ونطاق أوسع بكثير، وقد لا تتقيد بإطار زمني محدود. تشمل هذه الأهداف استهدافًا دقيقًا ومكثفًا للبرنامج النووي الإيراني، وإعاقة قدرات طهران العسكرية بشكل كبير، مما قد يرقى إلى مستوى تصعيد يشبه حربًا شاملة، على الرغم من أن تل أبيب لم تعلن ذلك صراحة.
- ثانيًا: تعتبر هذه المرة الأولى التي تمنح فيها الولايات المتحدة، جهارًا، إسرائيل تفويضًا لتنفيذ ضربات عسكرية ضد إيران. في الماضي، كانت واشنطن تنسق عمليات للرد على الهجمات الصاروخية الإيرانية ضد إسرائيل، ويُعتقد أنها كانت على علم مسبق بالعديد من العمليات الإسرائيلية داخل الأراضي الإيرانية، لكنها لم تعلن دعمها الصريح لهذه العمليات قط.
وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد وضع هذا التفويض في سياق الضغط على طهران من أجل القبول باتفاق نووي يتماشى مع الشروط الأميركية، فإن الأهداف الإسرائيلية المُعلنة تتجاوز حدود الضغط العسكري كأداة تفاوضية، وتشير بوضوح إلى طموحات أبعد غورًا.
- ثالثًا: خلافًا لجولات التصعيد السابقة، جاء الرد العسكري الإيراني في التصعيد الحالي بوتيرة أسرع وعلى نطاق أوسع مقارنة بالاستجابات السابقة. يعكس هذا الرد غيابًا ملحوظًا لأي دور بارز للدبلوماسية عبر القنوات الخلفية في تشكيل طبيعة الاستجابة الإيرانية، على عكس ما كان سائدًا في الجولات السابقة. وكان هذا الرد متوقعًا بالنظر إلى طبيعة المواجهة الراهنة وما تمثله من تهديد وجودي محتمل للنظام الحاكم في طهران.
إن غياب قواعد اشتباك واضحة في إدارة هذا التصعيد الحالي، جنبًا إلى جنب مع تخلي كل من إسرائيل وإيران عن الخطوط الحمراء التقليدية، يجعل المواجهة الراهنة أضخم من مجرد جولة قتالية محدودة، وأقل من حرب شاملة مكتملة الأوصاف. ومع أخذ احتمال نجاح الجهود الدبلوماسية خلال الأيام أو الأسابيع القادمة في تهدئة التوتر في الحسبان، فإن هذه المواجهة قد تتدحرج إلى حرب واسعة النطاق بناءً على مدة استمرار التصعيد المتبادل، وحجم التصعيد، بالإضافة إلى الحسابات الإستراتيجية للولايات المتحدة.
حتى لو بدا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يشن هجومًا على إيران بتفويض أميركي يهدف إلى إرغامها على القبول باتفاق نووي يحد من طموحاتها النووية وقدراتها الصاروخية، فإنه يرى في هذا التفويض فرصة سانحة لتوسيع نطاق المواجهة، بهدف إحداث تغيير جوهري في ديناميكيات الصراع مع طهران، وربما السعي إلى إضعاف النظام الإيراني بشكل كبير، وهو هدف أشار إليه نتنياهو مرارًا في تصريحاته الأخيرة.
إذا ما وضعنا الأهداف الإسرائيلية للمواجهة الحالية في سياق حرب السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فإنها تتجلى في بعدين رئيسيين: الأول، إضعاف إيران عسكريًا وسياسيًا، وربما محاولة تغيير نظامها الحاكم بالقوة، والثاني، تعزيز النفوذ الإسرائيلي في المنطقة كجزء من رؤية "الشرق الأوسط الجديد" التي طرحها نتنياهو عقب اندلاع الحرب المذكورة.
إن القلق الإقليمي الذي عبرت عنه دول المنطقة، والتي أدانت الهجوم الإسرائيلي على إيران، لا ينبع فقط من مخاوف من تحول التصعيد إلى نزاع طويل الأمد يهدد الأمن والاستقرار الإقليميين، بل يشمل أيضًا الهاجس من التداعيات الإستراتيجية لنجاح إسرائيل في تحقيق أهدافها ضد إيران، وما قد يترتب على ذلك من إعادة تشكيل توازن القوى في منطقة الشرق الأوسط.
في أعقاب حرب السابع من أكتوبر/تشرين الأول، برزت إسرائيل كقوة إقليمية ذات نهج عسكري وسياسي متحرر من القيود، تسعى ليس فقط لمواجهة ما تعتبره تهديدات وجودية، بل أيضًا لتحقيق أهداف إستراتيجية أوسع تشمل إعادة تشكيل القضية الفلسطينية، وتوسيع نطاق احتلالها في مناطق مثل لبنان وسوريا، والتأثير في استقرار دول أخرى في المنطقة. إن التحركات الإسرائيلية المتزامنة ضد أربع دول: (لبنان، سوريا، اليمن، وإيران) تعكس تفوقًا عسكريًا ساحقًا، لكنها تثير مخاوف إقليمية من فقدان التوازن في المنطقة برمتها.
تُعد المواجهة العسكرية الحالية بين إسرائيل وإيران، أو ما يمكن وصفه بحرب غير معلنة، النزاع الأخطر الذي تشهده منطقة الشرق الأوسط منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003، والأكثر تأثيرًا من حيث تداعياته على النظام الإقليمي وتوازن القوى فيه. كان سقوط نظام صدام حسين بمثابة لحظة صعود لإيران كقوة إقليمية، وهو صعود استمر لعقدين من الزمن.
أما الحرب الحالية، فستكون حاسمة في تحديد مستقبل إيران برمته، ليس فقط كقوة فاعلة في المنطقة، بل كدولة ذات سيادة واستقرار داخلي. في المقابل، تسعى إسرائيل جاهدة لجعل هذه الحرب لحظتها الفارقة، لتصبح القوة المهيمنة في تشكيل معالم الشرق الأوسط الجديد. من المؤكد أن مثل هذا السيناريو سيحمل تداعيات إستراتيجية وجيوسياسية عميقة على دول المنطقة، حيث إن نجاح إسرائيل في تحقيق أهدافها قد يمنحها حرية أكبر لإعادة صياغة المنطقة وفق رؤيتها الخاصة.
ما يضاعف قلق دول المنطقة هو أن إسرائيل، من خلال حربها مع إيران، لا تستهدف فقط تقليص البرنامج النووي أو القدرات العسكرية لطهران، بل تسعى جاهدة لتحقيق هدف أعمق يتمثل في ترسيخ نفسها كالقوة الإقليمية الأوحد والمهيمنة في منطقة الشرق الأوسط. فبهذه المواجهة، تسعى إسرائيل إلى إزاحة إيران من معادلة النفوذ، وفرض نظام إقليمي جديد تكون فيه صاحبة الكلمة المطلقة، مستندة إلى تفوقها العسكري والدعم الأميركي غير المحدود. هذا التوجه الإسرائيلي لا يهدد توازن القوى فحسب، بل يضع مستقبل الاستقرار في المنطقة على المحك، ويثير تساؤلات جوهرية حول إمكانية بناء نظام إقليمي تعددي في ظل سعي قوة واحدة لفرض هيمنتها ورؤيتها عبر الحرب.